الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرف لقوله تعالى: {يَصْدُرُ الناس} يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى موقف الحساب {أَشْتَاتًا} متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين وراكبين وماشين ومقيدين بالسلاسل وغير مقيدين وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى وقيل إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة وجوز أن يكون المراد كل واحد وحده لا ناصر له ولا عاضد كقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} [الأنعام: 94] وقيل متفرقين بحسب الأقطار {لّيُرَوْاْ أعمالهم} أي ليبصروا جزاء أعمالهم خيرًا كان أو شرًا فالرؤية بصرية والكلام على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر لا حاجة إلى التأويل والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو كما ترى وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلًا عند الحساب فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضًا وقال النقاش الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدرون منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم من الجنة والنار وليس بذاك وأيًا ما كان فقوله تعالى: {لّيُرَوْاْ} متعلق بيصدر وقيل هو متعلق بأوحى لها وما بينهما اعتراض.وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية {ليروا} بفتح الياء وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}تفصيل {ليروا} والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وهي علم في القلة قال أمرؤ القيس:وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء وأخرج هناد عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها وقال كل واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب {خيرًا} و{شرًا} على التمييز لأن مثقال ذرة مقدار وقيل على البدلية من مثقال والظاهر أن من في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وأن المراد من رؤية ما يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من الخير مع أنهم قالوا أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا} وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 16] وقال تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: 18] الآية وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفف عَنْهُمُ العذاب} [البقرة: 86] وقوله سبحانه: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] ويقتضي أيضًا عقاب المؤمن بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذٍ لقوله تعالى: {أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم} [النساء: 31] وقول ابن المنير: إن الاجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والاجتناب سواء في حكم النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون المراد بمن الأولى السعداء وبمن الثانية الأشقاء بناءً على أن فمن يعمل إلخ تفصيل ليصدر الناس أشتاتًا وكان مفسرًا بما حاصله فريق في الجنة وفريق في السعير فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه: {فَمَن يَعْمَلْ} و{من يعمل} بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين وقال آخرون بالعموم إلا أن منهم من قال في الكلام قيد مقدر ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر فالتقدير فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره إن لم يحبط ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره إن لم يكفر ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في الآخرة فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة.فقد روى البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: فمن يعمل مثال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس له فيها خير ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفئ ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها شر.وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في (الشعب) وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال بينما أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ} الآية فرفع أبو بكر يده وقال يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال عليه الصلاة والسلام «يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة».وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه صلى الله عليه وسلم قال له إذ رفع يده «من عمل منكم خيرًا فجزاؤه في الآخرة ومن عمل منكم شرًا يره في الدنيا مصيبات وأمراضًا ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة».ومنهم من قال المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتنب عن الكبائر وإثابته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه.وبه يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا وشرًا في الدنيا إلا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فيريه حسناته وسيئاته فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما النظم فإن قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ} إلخ تفصيل لما عقب به من قوله سبحانه: {يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا لّيُرَوْاْ أعمالهم} [الزلزلة: 6] فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق ويصدر الناس مفيد بقول عز وجل: {أَشْتَاتًا} فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات دركات وأما المعنى فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقال حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا} [الأنبياء: 47] وأما الأسلوب فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصلًا وفرعًا.روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر أي عن صدقتها قال: «لم ينزل على فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة» أي المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة والسلام.وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فقال حسبي لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها انتهى.وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة الأولى وعدو الثانية وعيد ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلًا وكرمًا والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل وهي ناطقة بأنه إن كان كفرًا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن مجتنب الكبائر يكفر وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو غير مجتنب الكبائر فتحت المشيئة وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا الكفر من الكافر كذلك وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر وأما بالنسبة إلى الكافر فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتمًا يخفف الله تعالى عنه لكرمه وأن أبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه لجاريته ثويبة حين بشرته بذلك والحديث في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تفخيف العذاب فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا يخفف والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك ومعنى إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال غيرهم وهو معنى كونها سرابًا وهباءً ودعوى الإجماع على إحباطها بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقًا والخلاف إنما هو في خطابهم في غيرها من الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها الأعقاب تاركها وثواب فاعلها وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الخفاجي عليه الرحمة ثم قال وما في (التبصرة) و(شرح المشارق) و(تفسير الثعلبي) من أن أعمال الكفرة الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث فإن عمل أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في الآخرة أم لا بناءً على أن اشتراط الإيمان في الاعتداد بالأعمال وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو بعد لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث «أسلمت على ما سلف لك من خير» غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم.وذهب آخرون إلى الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني: إن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورجائه ومنه ما يكون لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى.ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضًا فتأمل وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه لما نزل {ويطعمون الطعام على حبه} [الإنسان: 8] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه وفيها من دلالة الخطاب ما لا يخفى وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعدها يتصدقون بما قل وكثر فقد روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها بعث إليها ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت لجاريتها هلمي وكانت صائمة فجاءت بخبز وزيت فقالت ما أمسكت لنا درهمًا نشتري به لحمًا نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت.وجاء في عدة روايات أنها أعطت سائلًا يومًا حبة من عنب فقيل لها في ذلك فقالت هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية وروي نحو هذا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رضي الله تعالى عنهم وكان غرضهم تعليم الناس أنه لا بأس بالتصدق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه تمرة فقال السائل نبي من الأنبياء بالتصدق بتمرة فقال عليه الصلاة والسلام «أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة»وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا النار ولو بشق ثمرة» ثم قرأ الآية وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عز وجل المطلق وما يحكى من أن أعرابيًا أخر خيرًا يره فقيل له قدمت وأخرت فقال: فغفلة عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة.وقرأ الحسين بن علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه {يره} بضم الياء في الموضعين.وقرأ هشام وأبو بكر يره بسكون الهاء فيهما وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضًا عن بني كلاب وبني عقيل.وقرأ عكرمة {يراه} بالألف فيهما وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة كما حكى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم ان من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى: {إنه من يتق ويصبر} [يوسف: 90] في قراءة من أثبت ياء {يتق} وجزم {يصبر} وجوز أن تكون الألف للإشباع والوجه الأول أولى والله تعالى أعلم. اهـ. .قال ابن عاشور: وقوله: {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا}بدل من جملة: {يومئذ تحدث أخبارها} والجواب هو فعل {يصدر الناس} وقوله: {يومئذ} يتعلق به، وقُدم على متعلقه للاهتمام.وهذا الجواب هو المقصود من الكلام لأن الكلام مسوق لإِثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذارًا بهذا الحشر.وحقيقة {يصدر الناس} الخروج من محل اجتماعهم، يقال: صدر عن المكان، إذا تركه وخرج منه صُدورًا وصَدَرًا بالتحريك.ومنه الصَدَر عن الماء بعد الورد، فأطلق هنا فعل {يصدر} على خروج الناس إلى الحشر جماعات، أو انصرافهم من المحشر إلى مآويهم من الجنة أو النار، تشبيهًا بانصراف الناس عن الماء بعد الورد.وأشتات: جمع شَتّ بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق، والمراد: يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عُيّن لهم من منازلهم.وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله: {ليروا أعمالهم}، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة: انظروا أعمالكم، أو انظروا مآلكم.وبُني فعل {ليروا} إلى النائب لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيينُ مَن يريهم إياها.وقد أجمع القراء على ضم التحتية.فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال فإن الأعمال لا تُرى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها.{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}تفريع على قوله: {ليروا أعمالهم} [الزلزلة: 6] تفريع الفذلكة، انتقالا للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء، والتفريعُ قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتًا.والمثقال: ما يعرف به ثِقَل الشيء، وهو ما يُقَدَّر به الوزن وهو كميزانٍ زِنةً ومعْنًى.والذّرة: النملة الصغيرة في ابتداء حياتها.و{مثقال ذرة} مثَل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإِيمان قال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا} [النور: 39].وإنما أعيد قوله: {ومن يعمل} دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإِطناب.وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي (الموطأ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيلُ لثلاثة» الحديث.فسُئل عن الحُمُر فقال: لم يُنْزَل على فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}.وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه أحكم آية في القرآن، وقال الحسن: قَدِم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صَعصعة: حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها.وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإِنجيل والزبور والصحف: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}وإذ قد كان الكلام مسوقًا للترغيب والترهيب معًا أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويهًا بأهل الخير.وفي الكشاف: يحكى أن أعرابيًا أخَّر خيرًا يَرَه فقيل قدّمت وأخَّرت فقال:اهـ.وقد غفل هذا الأعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير.روى الواحدي عن مقاتل: أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما.ومن أجل هذه الرواية قال جمع: إن السورة مدنية.ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضيًا أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهدًا يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة. اهـ.
|